الثلاثاء، 18 يناير 2022

الرؤية ضَبابية








مِن على كُرسيّي في طَرفِ الغُرفة...
كُنتُ أضعُ واقي الشّمس وأُوَزِّعه بِرفقٍ على وجهي حينَ سَقطَت عيني على النافذةِ التي تقع في الطَّرف الآخرِ من الغُرفة،
ستائرُ النّافذة مفتوحةٌ إلى المُنتَصف، وأعني المُنتَصف حرفياً لأنني قِستها بالسنتميترات الواحدة...حيث أنني جلستُ أياماً عديدة لأكتشف ما الوضعية الصحيحة للستائر التي تُدخِلُ الكمية المُناسبة من الضَّوء إلى الغُرفة، بحيثُ لا يطغى نورُ الشّمسِ على أنوار الإضاءةِ أو العكس، وتُنار مساحات الغُرفة بتعاونٍ موزون ما بين الشَّمسِ التي تُذكّرني بحياةِ الرِّيف وما بينَ المصابيح التي تَرمُزُ لحياةِ التَمَدُّن،
لأكونَ في كلِّ صَباحٍ فتاةَ الرِّيفِ والمدينةِ في آنٍ واحد.
أٌحبُّ أن تكون إضاءةُ غُرفتي دائماً بهذا التوازن، وأُحبُ أنا أن أكون كذلك.

كانَت الرؤية خلال النّافذة معدومة تماماً، لا وجودَ لبيوتِ الجيران الأربعة المُحيطةِ بنا ولا السيارات المألوفة، ولا وجودَ لحديقةِ أبو سعد الذي قامَ في مُنتَصف السنة الماضية بتحويطِ حديقته بأسوارٍ عالية كي لا يُتَطَفَّل على أهلِ بيته حين يجلسونَ بها،
وسيشعرُ بالإحباط التامِ حينَ يَعلم أنني من غُرفتي بالدورِ الثاني أستطيع أن أرى كلُّ ما أرادَ هو إخفاؤه.
لكنني لا أفعل، لأنَّ الإحباط هو آخرُ ما أودُّ أن أُقدِّمه للنّاس، فقد أعطَتهم الحياةُ قَبلي ما يكفي منه.
أبو سعد يَكفيهِ شَرَف المُحاولة.

مَشيتُ إلى الطَّرف الآخرِ من الغُرفة، حيثُ تتواجد النّافذة، كي أتأكد أنَّ ما أراهُ ليسَ حُلماً أو خللاً في النَّظَر،
ومعَ كلِّ خطوة أقرَب للنافذةِ تتضِّح الرؤية أكثر وأكثر، نَعَم...ها هي شجرةُ النّخيل في حديقةِ أبو سعد أراها بوضوحٍ الآن، وها هي سيّارات الجيران، إذاً للهِ الحمد أنهُ ليسَ أياً من الاحتمالينِ السيئين اللَّذينِ وضعتهما،
لا خَللاً ولا حُلماً، إنه بُكلِّ بَساطة، ضَباباً.

ترددتُ قليلاً بخصوصِ قيادة السّيارة وسَط الضباب، وأثناء تجَّهُزي للخروجِ من المنزل...اقتربتُ وابتعدتُ من النّافذة أكثر من مرّة في مُحاولةٍ فاشلةٍ مني لقياس مدى انعدام الرؤية، مع أملٍ زائف بأنَّ الضباب سَيَخِفّ خلال هذه الدقائق المعدودة لحينِ خُروجي، وسَتُصبح فكرة القيادة وَسط هذه الأجواء فكرة سديدة.
لكنني خرجتُ على أيّةِ حال، خرجتُ على أنغامِ صوتِ والدتي حبيبتي التي كانت -كعادتها- تُنبّهني على الانتباهِ لنفسي وأخذِ الحيطة،
و -كَعادتي- تكفيني "بحفظِ الرّحمن" التي تقولها والدتي لأنتَزِعَ التردُّد من قلبي وأستبدلهُ بالاطمئنان.

تهيَّأ لي وأنا أقودُ سيّارتي وَسَط الضَباب بأنني أَمشي بينَ الغيوم، أليسَت هذهِ أُمنيةُ الطّفولةِ لدى أغلبيةِ النّاس؟
ولعلَّ تنافُسنا على المقعدِ الذي بجانبِ نافذةِ الطائرة ونحنُ أطفال هو كلُّ ما كان بِوسعنا أن نفعله لتحقيقِ الأُمنية.
واليوم الغيوم نَزَلت لنا بدلاً من أن نَصعدَ لها،
إذاً لِمَ كلُّ هذا الذُّعر..والتحذيرات الأمنية..والازدحام والفوضى؟
"ما كُلُّ ما يتمنّاهُ المرءُ يُدركه" أُردِّدُ في عَقلي. ومن الواضح أن المَشي بينَ الغيوم ليست فكرة جيّدة بالنهاية.

شعرتُ بأن الله يُخاطبني من خلالِ هذا الضَباب،
ويا لَها من قفزةٍ مُفاجئة بين الأفكار.
في الحقيقة، يَتَفَنَّنُ عَقلي في القفزِ بين الأفكار، من أسخَفِها إلى أعقَلِها، والخطُّ الفاصلِ بينهما خطُّ ضَبابيٌ بحدِّ ذاته، يكادُ لا يُرى.

أُؤمنُ بالإشاراتِ الإلهية أكثر من إيماني بأيِّ شيءٍ آخر، وأشعرُ بأنَّ استقبال العام الجديد بأجواءٍ ضَبابية يَصلُح أن يكون إشارة إلهية لي.
فالعام الماضي لم يَكُن أفضلَ أعوامِ عُمري، أحبَطتني الحياة كما أحبَطَت أبو سعد.
واللهُ وَحدُه يَعلَم بأنَّ الرؤية ضبابية...في الشّارع وفي قَلبي.

في هذه اللَّحظة آمنتُ بكلّ ما يقوله مَشايخ التنمية البشرية وعِلمِ الطّاقة،
"ما بداخلك ينعكس على مُحيطك..أنتَ تجذُب ما يُشبهك..إلخ"
وحالياً، الضَباب -الذي يُحيطني- يُشبهني فِعلاً.
ضَباب الشَّارع يحجُب البَصَر، وضَبابُ القلب يحجبُ البصيرة.

عادَت ذاكرتي بي إلى لحظة اقترابي وابتعادي عن النّافذة صَباحاً قبلَ خُروجي من المنزل،
أُكرِّرها في خيالي..كان هناك ما يُطَمئِنني بهذه اللَّقطة..
الرؤية مَعدومة من النَّظرة الأولى البعيدة فَينتابُني القَلَق...شجرة النَّخيل في حديقة أبو سعد كانت إشارةُ النّجاة والخيط الأول الدَّال على أنني اقتربتُ من الرؤية بوضوح...وكُلّما اقترَبَت خُطواتي من النّافذة اتضَّحت مَلامحُ الحياةِ التي أعرفها لأشعرَ بشيءٍ منَ الأُلفة....وصلتُ وتَلاشَت مخاوفي شيئاً فشيء..تسلَّحتُ بدعاء والدتي ومَضيتُ باطمئنانٍ تام...
وقَد يُلخِّص هذا المشهد البسيط الحياةَ بأكملها.
كُلّ شيء بعيد ومَجهول...مُخيف، ويبدو أنَّ الخوف لا يأتي لوحده، بل يأتي حاملاً غمامَةً من الأفكار التي تحجب الرؤية عن عينِ القلب، غمامةٌ حجَبَت معها كُلّ ما يُشعرني بالثقة والألفة والأمان وتبدو من بعيد أنها لن تَنكشِف، أتردَّد في خوضِ الحياة وممُارستها بوجودِ غمامةٍ سوداء كهذه، لكن اذا أكملتُ طريقي على رُغمِ وجودها..سواءَ كان الطريقُ قصيراً كقُصر المسافة بين كُرسيّي والنّافذة، أو طويلاً كطولِ المسافة بيني وبين كلِّ ما يَشغل قلبي، فإنَّ إشارات النّجاة سُرعان ما سَتتهافَت في الظهور، واحدة تِلو الأُخرى، وستتضِّح الرؤية،
بقليلٍ من الشّجاعةِ والإقدام ودعواتِ أمي..سيعودُ قلبي مُتَزِّناً كاتزانِ إضاءةِ غُرفتي.

تنَّفستُ الصُّعداء وأنا أركِنُ سيّارتي بعدَ نِصف ساعةٍ من القَفز بين الأفكار...أعني القيادة.
أُلقي نظرة خاطفة على السّماء، تطلُّ شَمس الظَّهيرة الرّيفية بخجلٍ من بينِ الغيوم،
بدأ الضبابُ بالانقشاعِ فعلاً…في السّماءِ وفي قلبي، أو قد تكونُ الأولى نتيجة الثّانية...لأنَّ ما يُحيطنا يُشبِهنا.




الجمعة، 19 نوفمبر 2021

شَمعةٌ جديدة، وجَوابٌ مَجهول.







لطالَما كُنتُ شَخصاً يُقدَّسُ أعيادَ الميلاد، أو "أيامَ" الميلاد كما كانت مُعلِّمتي لمادةِ التربية الإسلامية تَحرِصُ أن تقول،

لطالَما كنتُ شخصاً يَبتهِج بقُدومها ويعتقد أنَّ يوم ميلاد المرء هو يومٌ مميزٌ، وإن لم يَكُن مُميزاً بحدِّ ذاته، إذاً علينا أن نجعله كذلك.

علينا أن نَحتِفل، أن نُشعل الشّموع..أن نُغنّي..والغناء هُو فقرتي المُفضَّلة بالطَّبع، وَلا يَهُمني أنني لا أَملِكُ صوتاً عَذباً، فَهُوَ يومُ الميلاد..اليوم المُميز! يوم الاستثناءات حَسَبِ تعريفِ قاموسي.

قررتُ أن أرتدي اليوم ثَوبي الأحمر المُنقَّط بنقاطٍ بيضاء، اعتقدتُ أن لوناً مُميزاً كالأحمَر يُناسبُ يوماً مُميزاً كهذا، ودَندَنتُ لِنَفسي "يا لابس الثّوب المنقّط..اسمك يا حلو ما فيه نقطة"، واكتشفتُ أنني في الحقيقة أجهلُ باقي كَلِمات الأُغنية، ولا أَحفَظُ مِنها إلا هذا المقطع، ولكن لا يَهُم، أنا لَم ولَن أكونَ شخصاً يرفُضُ إهداءاتِ الأغاني، حتّى وإن كانت منّي وإليّ. وخصوصاً في يومي المُميز.

تمعنتُ كثيراً في الشَّمعةِ المَوضوعةِ على كَعكتي، والتي -بالمُناسبة- قد اخترتها لِنفسي، حيثُ أنَّ الجميع أصبَح يعلَم بقوانيني الخاصّة في ما يخصّ الطَعام، وبما أنني انتقائيةٌ في جودةِ ونوعيةِ ما أضعه في مَعِدَتي، تَرَكني الجميع أختار كعكتي بنفسي.

أينَ كُنَّا؟ نَعَم صحيح...الشَّمعة.

شَمعةٌ تقليديةٌ تُمثّلُ عُمري الذي بَلغتُه، اثنان وعُشرونَ عاماً،

أَتمعَّن....وأُفكِّرُ في الشَّمعة....لا شيء مُميز بخصوصها...إنها من الشُّموع التي تراها مُتوفرةً -ومُهمَلةً- دائماً على رُفوفِ المكتبة، وبِثَمَنٍ بَخس، لكنَّها اليوم شمعةٌ مُميزة، أليسَ كذلك؟ تمَّ انتقائها خصّيصاً لتكون شَمعة الميلاد المُميز، تُرى أتشعرُ باقي الشُّموع على رفِّ المكتبة بالغيرةِ من شَمعَتي بعد أن أصبَح لوجودها مَعنى؟

ياااه...المَعنى...المَعضِلة الوجودية الأبدية.

عليَّ أن أبحثَ الآن عن اقتباسٍ مُنمَّقٍ لأضعه في حسابات السوشال ميديا مُعلِنَةً عن يومِ ميلادي، اقتباسٍ ذو معنى يُثير الإعجاب.

ما الذي من المُفترَض أن يتفكَّر ويَشعُر به الإنسان عندَ بلوغِه العام الثاني والعشرين من عُمره؟

"٢٢"

رَقمَيْن مُتمَاثِلَيْن بجانب بعضِهما، إنه بحقّ رقمٌ مُميز، إنه يَصلُح أن يكون رقَماً تتفاءَلُ بِهِ قارئةُ الفِنجان إن تراءَى لها في قاعِ فِنجاني، أو رقماً تقرأهُ قارئةُ الكُفوف وهي تَلمسُ خطوطَ كفّي فَتُخبرني أنَّ شيئاً مُبهِجاً يَنتظرني، نجاحاً باهراً..حظّاً جميلاً..أو زواجاً قريباً تَفرَحُ بهِ أُمي.

أشعرُ بأنَّ كُلُّ ما حولي يُحاولُ أن يُوَّجهني تجاه إجابةٍ مُحتَمَلةً لسؤالي، ويَحملُ في باطِنه مَعنى يَنتِظرُ منّي التأملَ والتّفسير، يومُ الجُمعة..سماءٌ زرقاء..غُيومِ نوڤمبر..هواءٌ عَليل..كعكةٌ لذيذة..شمعةٌ تحملُ رَقماً مُميزاً..وثَوبٌ أحمَر.

لكن...لِمَ لا زِلتُ أشعُر باللّا مَعنى؟
رُبمّا لأنها أجوبةٌ واضحةٌ، سَهلة، النوع غير المُفَضَّل من الأجوبةِ بالنسبةِ لي، لأنني وكَما قال الشَّاعِر مظفَّر النوَّاب:

"أنا يعجبني أدوّر عالقُمَر بالغيم
ما أحبّ القُمَر كلّش قُمَر.."


إنها اللَّعنة.
إنها لَعنةُ أن تكونَ مُحبَّاً للحَفرِ عميقاً..ومُستمرَّاً بالحَفرِ كأن لا وجودَ للقاع، إنها لعنةُ الإدمانِ على الرِّحلة دونَ أملٍِ للوُصول.

لعنةُ التفكير..الغَوص في التساؤلات..وطرحِ المزيد منها قبلَ السَّعي للحصول على أجوبتها،
ورَفض الأجوبة الجاهزة المُعلَّبة، ولَعنةُ التصديق بأنَّ كُلّ شيء يجب أن يحملَ أبعاداً عديدة وتفاصيلَ عميقة، ولَعنة الاعتقاد بأنَّ اختياري للثَّوب الأحمر يجب أن يُشير لشيءٍ أبعَدَ من كوني -وبكلّ بساطة- أُحبّ اللون الأحمَر، وأبدو أجمَلَ فيهِ.

شَمعتي تشتعلُ في كلِّ عام، وتُشعلُ معها سؤالاً جديداً، سؤالٍ دونَ جَواب، لأنَّ الجواب -لِشَخصٍ مِثلي- هو بالتحديد مايُطفئ الشَّمعة، ويُطفئني مَعها.
فأنا أُحبُّ شُموعي مُشتَعِلةً، لهيبُها أحمرٌ...كَثَوبي، تُشعلُ أسئلةً تَدفعني لإكمالِ طريقي في مَتاهةِ البَحثِ عن مَعنى لِما حولي، مَعنى مَجهول..ومَتاهةٌ لا أعلمُ مَتى وأينَ خَطُّ نِهايتها، أو بالأحرى لا أُريدُ أن أعلَم.
أُريدُ أن أجري تارَّةً في المَتاهة، وأريد أن أَمشي بُهدوءٍ تارَّةً أخرى، وأريدُ أن أَصِلَ إلى أماكنَ لم تَكُن بالحُسبان، وأستكشِفَ زوايا في مَواقِع لم تكن ضِمنَ الخَريطة، وأُريدُ أن أتعَب من الجريِ والمَشي، فأستريحُ...لأعودَ وأُكمِلَ التّيه،

وفي كلّ عام..أريدُ شَمعةً جديدة، وجوابٌ مَجهول.